--------------- - - -

May 9, 2017

مُراجعة كتاب: تنصير المسلمين، إسبانيا 1491 – 1609


بقلم: د. عبدالرحيم الرحوتي
الكتاب: تنصير المسلمين، اسبانيا 1491 - 1609 Convertir les musulmans, Espagne 1491 - 1609
المؤلف: إيزابيل بوتران Isabelle POUTRIN
تاريخ النشر: باريس، 2013
الناشر: المنشورات الجامعية الفرنسية PUF
الرقم المعياري الدولي للكتاب: 9782130589143
تنصير المسلمين بالإكراه في إسبانيا استمر على امتداد قرن من الزمان، من سقوط غرناطة (1491) إلى أن تم إقرار طرد نحو ثلاث مئة ألف مورسكي من ذرية المنصرين خارج تراب شبه الجزيرة الإيبيرية (1609). ينظر اليوم إلى هذه السياسة التي استلهمت نموذج اضطهاد اليهود في العصور الوسطى بأوروبا، على أنها كانت تحمل في طياتها كل أسباب الفشل، وذلك منذ انطلاقها. لماذا تم إكراه المسلمين على التنصير، هذا في الوقت الذي يبدو واضحًا تمامًا أنهم لن يؤمنوا بالمسيح؟
لماذا تم طرد ذريتهم بعد كل المجهودات التي بذلت لكي يقطعوا صلتهم بالإسلام؟
بإعطائها الكلمة لمختلف الفاعلين المعنيين بملابسات هذه القصة، المورسكيون وكبار النبلاء وقضاة محاكم التفتيش وعلماء الدين ومستشارو الملك، فإن إيزابيل بوتران قدمت إضاءة جديدة ونوعية لحلقة مؤلمة بالنسبة للمسلمين، ومأساوية بالنسبة لإسبانيا وحاسمة في العلاقات بين الكنيسة المسيحية وغير المسيحيين.
في كتابها الصادر حديثًا «تنصير المسلمين، إسبانيا 1491 – 1609»، اختارت إيزابيل بوتران تناول المأساة التي عاشها المسلمون تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس بهدف الكشف عن الخلفيات التي تحكمت في القرارات التي اتخذها ملوك إسبانيا المسيحية (فيرديناند، إيزابيلا، شارلكان، فيليب الثاني، فيليب الثالث) في حق المسلمين لما آل أمرهم إليهم. لم تعر المؤلفة أي اهتمام يذكر لمفهومي التسامح واللاتسامح اللذين اعتاد الباحثون اللجوء إليهما عند تناول مسألة الأقليات الدينية في المجتمعات الأوروبية بشكل خاص، حتى وإن قادها اختيارها، كما تنص على ذلك في مقدمة الكتاب، إلى الوقوع في مغالطة تاريخية. هذا التنصيص يجد ما يدعمه في كتاب آخر لمؤلفته لوسيت فالينسي بعنوان «هؤلاء الغرباء المألوفون، المسلمون في أوروبا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر» (2012) الذي خصصته لدراسة وضعية المسلمين في أوروبا وتحتل فيه، كما يمكن أن نتوقع، مسألة المورسكيين مكانًا مركزيًّا. لا تتردد المؤلفة، وذلك منذ الصفحة الأولى، بالمطالبة بالحق في المغالطة التاريخية مما سيقودها إلى تناول المسألة المورسكية بوصفها حالة من حالات التطهير العرقي الكبرى التي عرفتها القارة الأوروبية.
لم يكن هدف إيزابيل بوتران الإسهام في كتابة تاريخ المورسكيين، بحيث إن الحلقة المهمة (1568 – 1570)، تلك التي تتعلق بالانتفاضة المشهورة التي عرفتها منطقة غرناطة، انتفاضة البُشرات، لم يتم تناولها في الكتاب إلا بشكل مقتضب، وإنما اختارت تركيز اهتمامها حول خلفيات وأبعاد السياسة التي نهجها حكام إسبانيا المسيحية إزاء المسلمين، وهو ما جعلها تمفصل كتابها حول ثلاثة تواريخ أساسية هي 1491، 1525، 1609 وهي تواريخ شكلت لحظات قوية عرفت فيها أوضاع الأقلية الإسبانية ذات الأصول الإسلامية تقلبات حادة بموجب قرارات حاسمة اتخذت في حق أفرادها. في سنة 1491 تم توقيع معاهدة الاستسلام بين الملكة إليزابيت والملك فيرديناند من جهة، وأبو عبدالله آخر أمراء مملكة غرناطة من جهة أخرى، وهي المعاهدة المعروفة باسم «سانتا في» التي برمج نصها استسلام إمارة غرناطة للمسيحيين مع ضمان حقوق المنهزمين، بشكل خاص حقهم في حرية العبادة والمعتقد وإدارة شؤونهم وفق تعاليم الشريعة الإسلامية وتوفرهم على مؤسساتهم الخاصة بهم لتنظيم أمور حياتهم الداخلية وحمايتهم من التنصير بالقوة وإعفائهم من حمل شارة خاصة تميزهم عن غيرهم.
بعد استسلام إمارة غرناطة واستقرار الأمور للحكام الجدد، شجعت الملكة إيزابيلا والملك فيرديناند، في مرحلة أولى، رحيل المسلمين عن إسبانيا نحو إفريقيا الشمالية، وهو ما سمح بإبعاد العناصر الأكثر عداءً وتشددًا التي يمكن أن تشكل خطرًا على الحكم المسيحي. الأعيان والخواص والقواد العسكريون، وكذا الفئات الأشد فقرًا، التي ليس لديها ما تخسره، كل هؤلاء حزموا أمتعتهم ورحلوا بحثًا عن ملاذ أكثر أمانًا لهم ولذريتهم. حركة الهجرة هذه كانت منسجمة بشكل تام مع موقف الفقهاء المسلمين، الذين كانوا يرون بأنه يستحيل ممارسة الإسلام بالشكل الصحيح في بلاد لا تخضع لحكم المسلمين. وجد هذا الموقف ما يدعمه في شخص العالم أبي العباس الونشريسي (توفي 914 هـ / 1509م) الذي ارتكز على فتوى كان قد أصدرها في وقت سابق أبو بكر ابن العربي المعافري الإشبيلي (توفي 543 هـ / 1148م) التي تفيد أن من يقبلون المكوث في بلاد الكفار يُعدون مثلهم مثل الذميين في بلاد الإسلام. لم يمض وقت طويل حتى أدرك الحكام الإسبان أن استمرار الهجرة سينتهي بإفراغ شبه الجزيرة الإيبيرية من سكانها بشكل مفاجئ مع ما يشكله مثل هذا السيناريو من خطر كبير على مستقبل البلاد. فكان أن حثهم ذلك على التراجع عن إقرار طرد جماعي في حق كل المسلمين منذ البداية والإحجام عن مواصلة تشجيع الهجرة وإخضاعها تدريجيًّا لشروط جعلت إمكانية مغادرة التراب الإسباني أمرًا صعبًا ابتداءً من 1495.
في المقابل عمل الحكام الجدد على تشجيع مجيء المعمرين المسيحيين للإقامة في المناطق التي استولوا عليها. بين 1485 و1500، انتقل نحو أربعين ألفًا من سكان قشتالة المسيحيين للاستقرار في مناطق مختلفة من إمارة غرناطة السابقة. كانت السياسة الديمغرافية للملوك الإسبان تقوم على استصلاح الأراضي وتهيئ الظروف لاستقرار المعمرين الجدد بهدف تعديل الميزان الديمغرافي لصالح المسيحيين. فتح أبواب الإمارة السابقة أمام الهجرة، ساعد على مجيء مسلمين من مناطق مختلفة من إسبانيا بشكل سري ولكن لم يدم الحال طويلاً حتى لوحظ أن تزايد أعدادهم بتراب الإمارة السابقة صار يشكل تهديدًا حقيقيًّا لاستقرار الأوضاع بها، فتقرر إجراء تهجير قسري في 1498. إعادة التعمير عن طريق الهجرة ستترجم على الأرض بتراجع العنصر الإسلامي. في نهاية القرن لم يكن يوجد بإمارة غرناطة إلا نحو خمسين ألف مسلم، وهو ما يعني أن نحو نصف ساكنة الإمارة السابقة اختاروا الهجرة، سواء حين سقوط غرناطة أو خلال الانتفاضات والمواجهات بين المسلمين والمسيحيين، وبشكل خاص الانتفاضة التي عرفتها المنطقة بين 1499 و1500 عند إقدام السلطات الدينية المسيحية على إحراق كمية هائلة من الكتب الإسلامية في ساحة البيازين بغرناطة.
إلى جانب سياسة تعديل الكفة الديمغرافية في المناطق التي كانت الغلبة فيها للمسلمين، عملت السلطات المسيحية على تشجيع سياسة التنصير مستغلة الغموض الذي اكتنف صياغة عدد من بنود المواثيق الموقعة بينها وبين المسلمين، الشيء الذي سيسمح بفتح الباب على مصراعيه أمام عمليات تنصير واسعة في غالب الأحيان تحت الإكراه، وباستعمال القوة والتهديد بالطرد أو القتل. بسبب الضغوط التي كانت تمارس عليهم والاعتداءات التي كانوا يتعرضون لها، كان المسلمون ينتفضون كلما استطاعوا لذلك سبيلاً دفاعًا عن أنفسهم وعن عقيدتهم، مما حدا بالملكة إيزابيلا إثر تمرد عنيف ودموي كانت غرناطة مسرحًا له إلى إصدار مرسوم في 1499 يقضي بإجبار جميع مسلمي إسبانيا على اعتناق المسيحية وإلا تعرضوا للطرد، وفي 1502 أصدرت مرسومًا ثانيًّا يلغي جميع أشكال التسامح مع المسلمين في مملكة قشتالة التي كانت تضمنها لهم المواثيق التي بموجبها انتقلوا للعيش في ظل الحكام الجدد.
مسلسل التضييق الذي بدأ في 1499 بمملكة قشتالة وقاد إلى إنهاء وضع المسلمين بها بموجب المرسوم الذي أصدرته الملكة إيزابيلا في الموضوع، سترتفع درجة حدته في 1525 عندما وجد المسلمون في إمارة بلنسية بدورهم أنفسهم أمام اختيارين لا ثالث لهما، التنصير أو القتل. جاء ذلك عقب تمرد معقد اعتدت فيه عصابات مسلحة على المسلمين الذين كانوا يشكلون اليد العاملة الأساسية لاستصلاح أملاك النبلاء واضطروهم للتنصير في غالب الأحيان تحت التهديد بالقتل. بعد استعادة السيطرة على الوضع طرحت مسألة قانونية التعميد تحت الإكراه بالنسبة لمسلمي الإمارة. خلصت اللجنة التي تكلفت بالتحقيق في الموضوع إلى أن التعميد قانوني ولا يقبل الطعن. ارتكز شارلكان على خلاصة هذا التقرير وأصدر أمره بطرد جميع المسلمين من إمارة بلنسية ممن لم يكونوا قد خضعوا للتعميد في صيف 1525. كل ساكنة المملكة هم رسميًّا، من الآن فصاعدًا، مسيحيون وأن اسم المورسكيين يستعمل فقط لتحديد المواطنين الإسبان المنحدرين من أصول غير مسيحية.
السؤال المركزي في خضم كل هذه الأحداث يدور حول التنصير بالإكراه. وهو سؤال ما فتئ يطرح ويثير نقاشات متشعبة وحادة منذ دخول القشتاليين والأراغونيين إلى غرناطة وحتى اتخاذ قرار الطرد النهائي باستعمال القوة في حق المورسكيين الموجودين فوق التراب الإسباني في 1609. حاولت المؤلفة إحياء وتحليل هذه النقاشات مع مراعاة إعادة إدراجها في سياقها التاريخي بكل ما لفه من صراعات وتجاذبات وتعقيدات. لكي تصل إلى مبتغاها قامت بمراجعة كم هائل من الوثائق المخطوطة المستغلقة التي لم يعد من السهل تفكيك رموزها كتبت من قبل أناس متمرسين في القانون الكنسي والثيولوجيا، وبعملها هذا قطعت مع القراءات السهلة والمتهافتة التي تسارع إلى تطبيق أصناف التفكير المتداولة في الوقت الحاضر على واقع مختلف تمامًا. تقترح المؤلفة تأويلاً جديدًا ومقنعًا لظروف الاستسلام في 1491 بفضل المقارنة بين المقترحات التي لم تنشر للأمير الغرناطي أبي عبدالله والتعديلات التي أدخلها عليها الحكام الأسبان. لم تساعد «معاهدة سانتا في» في تحصين الوضع الديني بالمدينة المستولى عليها، تقول إيزابيل بوتران، بقدر ما سيدشن الاستسلام، خلافًا للمتوقع، سياقًا نشيطًا للتنصير». لا مجال للحديث عن التزامات تم الوفاء بها. كانت عمليات التنصير تتم في غالب الأحيان تحت الضغط والتهديد والترهيب.
مع ذلك، ومع مرور الوقت وبرغم حملات التعميد الجماعي والتربية والتعليم والمراقبة والعقاب، فإن المورسكيين ظلوا متمسكين في قرارة أنفسهم بمعتقدهم وبعاداتهم وتقاليديهم الإسلامية. مع هذه المعاينة، فإن السياسة التي تم تبنيها انطلاقًا من 1526 ستشهد تحولاً في طريقة تناول المسألة الموريسكية، بحيث سينتقل النقاش من تناول قانونية التعميد من عدمه إلى التطرق لمكان المورسكيين في المجتمع الإسباني. في مرحلة أولى، تم تكليف محكمة التفتيش الملكية لكي تعمل على إعادة المنصرين المرتدين إلى ممارسة ديانتهم الجديدة طبقًا للأصول والتخلي عن العادات والتقاليد الإسلامية. لكن هذه الخطوة كانت عديمة الفعالية ولم تحقق أي نتيجة تذكر، فتقرر اتباع مسطرة العقاب بالأسر وإعادة التأهيل. ليستعيد المورسكيون المعتقلون حريتهم، كان يلزمهم اتباع تكوين خاص في أساسيات الديانة المسيحية. لكن هذه العملية بدورها لم تكن مجدية مما جعل الشك يساور النفوس ويستبد بالعقول بأن الأمر أشد تعقيدًا وعمقًا مما كان يتصور.
خلال تناولها للحلقة الأشد تعقيدًا في تاريخ المورسكيين تحت الحكم المسيحي الإسباني، وهي الحلقة التي تمتد من 1521 إلى 1525 والتي دفعت شارلكان إلى مطالبة المسلمين المقيمين في مملكة بلنسية إلى الاختيار بين اعتناق المسيحية أو الطرد، عملت المؤلفة على عرض وقائع الصراع بين المسيحيين والمسلمين مرتكزة على كتاب حول التنصير الذي كان قد حصل حديثًا للمورسكيين، وهو الكتاب الذي ألفه في 1525 فرديناند لوازيس، النائب العام لمحكمة التفتيش في بلنسية، ويتناول فيه هذا الفقيه في القانون الكنسي مسألة اللجوء إلى القوة للحصول على التنصير. يستحضر المؤلف كل السوابق المعروفة في التاريخ المسيحي وكل نصوص القانون الكنسي، التي تناولت مسألة الإكراه، مما سيسمح له بطرح مختلف الأسئلة التي أثارها تنصير المورسكيين منذ الحملة التنصيرية الأولى في بداية القرن السادس عشر وحتى انتفاضة بلنسية.
منذ ذلك الحين وإلى أن اتخذ قرار الطرد من قبل الملك فيليب الثالث، عرفت العلاقات بين المورسكيين والسلطات الإسبانية مرحلة جديدة تنعتها إيزابيل بوتران بـاسم «زمان الشك»، وهي حقيقة شهدت تراكم عدد كبير من الأفكار والتأملات والاقتراحات بخصوص مسألة المورسكيين. وراء المواقف المطبوعة بالتردد لدى شارلكان أو فيليب الثاني، وراء الاختيار الصعب بين قمع الردة من قبل محاكم التفتيش والتسامح العقائدي، وراء المواجهات بين الحكام والجماعات المتناحرة على السلطة والكنيسة والنبلاء، بدأت تظهر أولى علامات التصدع وهو تصدع ما فتئ يتسع مع مرور الوقت بين الفاعلين أو الشهود الذين عاينوا أحداث هذه القصة المؤلمة.
منذ البداية كان الحكام المسيحيون قد وضعوا ثلاثة تصورات بشكل استباقي لما يمكن أن يحصل مع مرور الوقت وتطور الأحداث. يتمثل التصور الأول في احتمال نجاح عملية التنصير طبقًا لما هو مرسوم لها، أما التصور الثاني فيرمي إلى الإبادة الجماعية للأقلية من أصول مسلمة، والثالث يتمثل في الطرد الجماعي في حالة فشل عملية التنصير والإدماج. منيت سياسة التنصير بفشل ذريع. برغم خضوع المورسكيين لبرامج تكوينية وتربوية ومراقبة صارمة لمنعهم من ممارسة معتقدهم وعاداتهم الخاصة بهم، ظلوا مختلفين عن غيرهم من المسيحيين الإسبان، وهي معاينة ستفتح الباب واسعًا أمام محاكم التفتيش لمتابعة المشتبه في أمرهم والنطق بأحكام بالإعدام حرقًا في حق ما لا يقل عن أربعين ألفًا من المنصرين الجدد، ومع ذلك لم تحقق هذه الإجراءات على قساوتها وبشاعتها أي نتيجة تذكر.
هكذا، ستتشكل النواة الأولى لنقاش طويل سيتطور تدريجيًّا نحو ظهور ثم تبلور فكرة ضرورة اجتثاث الإسلام من مجموع التراب الإسباني بوصفه أرضًا خالصة للمسيحيين دون غيرهم من أصحاب الملل الأخرى. بذلك يكون أنصار طرد المورسكيين قد نجحوا في إثبات وجاهة رأيهم بوصفه إجراءً ملائمًا وعقابًا معتدلاً للمرتدين، لأنه يحفظ لهم سلامتهم الجسدية، كما أن الطرد يشكل أيضًا وسيلة لوضع حد للخطر المحتمل الذي يمثله المورسكيون بسبب تخابرهم المفترض مع القوى الإسلامية في حوض البحر الأبيض المتوسط ومع العثمانيين ودول إفريقيا الشمالية.
بعد الانتهاء من قراءة كتاب إيزابيل بوتران نخرج بانطباع أننا فهمنا السياق الذي قاد إلى التحقيق الصعب للوحدة العقائدية في إسبانيا، وذلك عن طريق إقصاء جماعة كثيرة العدد وطردها من أرضها وأرض أجدادها لا لشيء إلا لأنها مهما فعل الحكام الجدد من أجل تنصيرهم لم يفلحوا إلا في شيء واحد هو التأكد من ثباتهم على دين أجدادهم. نقف كذلك في الكتاب على النقاش المتشعب والغني الذي تناول سياق تنصير مسلمي إسبانيا وهو سياق امتد على طول قرن كامل، القرن السادس عشر. ومن ضمن الإشكاليات التي طرحت تلك التي تتعلق بقانونية عملية التنصير بمفهوم القانون الكنسي، وهل فرض بالترهيب في معظم الأحيان على المسلمين وإذا كان الأمر كذلك ما هي الظروف التي يمكن تقديمها كمبررات لإجراءات من هذا النوع؟ مثل هذه الأسئلة أرقت ملوك إسبانيا ومستشاريهم وأساقفة الكنيسة الذين لم يتوقفوا عن مراجعة الخبراء في الثيولوجيا والقانون الكنسي. بصفة عامة، فإن أتباع القديس توما الإكويني كانوا يناهضون التنصير بالإكراه، في حين أن أتباع المذهب الفرنسيسكاني كانوا يبررون اللجوء إلى التنصير بالقوة عند الاقتضاء، آملين من وراء ذلك أن يفعل الزمان فعله مع وجود سياق تنصير ملائم كما أن المنصرين من شأنهم أن يتركوا ذرية ستكون مسيحية مثلها مثل باقي المسيحيين الآخرين وينتهي الأمر. بالنظر إلى كل ذلك فإن المهم بالنسبة لكل وضعية هو تقييم درجة الإكراه، الإكراه المطلق أو الإكراه المشروط بين الكفار الذين لم يسبق تعميدهم، مثل اليهود الذين ظلوا على يهوديتهم، والكفار الذين قبلوا التعميد، وانقلبوا بعد ذلك على دين المسيح، وهو الصنف الذي ينتمي إليه المورسكيون. تنص المؤلفة في سياق تناولها لهذا النقاش بأن الإحاطة التامة بالمفاهيم المستعملة ضرورية لكل من يريد فعلاً فهم طبيعة ومضامين القرارات المتخذة والسياقات التي اتخذت فيها.
التحليل الذي تقترحه إيزابيل بوتران يتميز بوصف البعد الديني عاملاً حاسمًا في المسألة المورسكية، وهو اختيار له ما يبرره، ولكنه على أهميته لا يجدر بنا التغاضي عن البعدين السياسي والاقتصادي اللذين اختارت المؤلفة معالجتهما بشكل مقتضب نوعًا ما. يبقى مع ذلك أن حكام إسبانيا وبصفة عامة كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والدينيين كانوا ينتظرون من الفلاحين والحرفيين المورسكيين المشهورين بمهارتهم أن يصبحوا مسيحيين جيدين في خدمة التاج الإسباني. التخوف من خيانتهم المحتملة لعب بكل تأكيد دورًا حاسمًا في القرار النهائي الذي اتخذ في حقهم وإن كانت وثائق عديدة تتحدث عن المرارة التي شعر بها المسؤولون الإسبان بخصوص سياسة التنصير التي مورست على الأقليات بالإكراه فجاءت النتائج على عكس ما كان متوقعًا.
أثار كتاب إيزابيل بوتران الكثير من الأسئلة التي يمكن أن تشكل منطلقات جديدة للبحث في مسألة المورسكيين، وهي منطلقات بحث يمكن أن تكون مثمرة بشكل كبير لو تم الربط بشكل أفضل بين الديني والسياسي في هذه المسألة، وذلك بالنظر إلى أن هذه الأقلية كانت متهمة بإقامة علاقات سرية مع العثمانيين والمملكة المغربية وولايتي الجزائر وتونس وكذلك مع البروتستانتيين في فرنسا. خلافًا للأقلية اليهودية، فإن المورسكيين كان ينظر إليهم من قبل العديد من الفاعلين السياسيين والدينين الإسبان بوصفهم يشكلون تهديدًا حقيقيًّا للتاج الإسباني، لذلك فإن قرار الطرد ارتكز من بين ما ارتكز عليه على خيانة مزدوجة، خيانة الله (الردة) وخيانة الملك (التخابر مع الأجنبي).
في الختام، يمكن القول بأن إيزابيل بوتران أحسنت استغلال الكمية الهائلة من الوثائق التي توفرت لها وبشكل خاص الوثائق المخطوطة التي لم تستثمر بالشكل المطلوب لحد الآن، كما أنها تميزت بدقة تحليلاتها ووجاهة طرحها وبكتابة واضحة ووثيقة الصلة بموضوعها، مما جعل كتابها يأتي في مستوى التطلعات. الكتاب هو بكل تأكيد إضافة نوعية للمكتبة المورسكية بالنظر لما يشتمل عليه من تصويبات مقنعة ومن تعديلات مبررة للأفكار المسبقة والانحرافات التي طالما عانى منها هذا الموضوع لتداخل اعتبارات عدة سياسية ودينية وإيديولوجية...
المؤلفة:
أستاذة محاضرة بجامعة باريس 12 في التاريخ الديني والسياسي. من مؤلفاتها: "الحجاب والقلم، السيرة الذاتية والقداسة النسائية في إسبانيا الحديثة"، 1995؛ النساء والسلطة السياسية، الأميرات الأوربيات من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر"، 2007؛ "طرد الأقليات الدينية في أوروبا من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر"، بالاشتراك.
المصدر: مجلة فكر

0 commentaires :

Post a Comment

Copyright © Los Moriscos De Túnez الموريسكيون في تونس | Powered by Blogger

Design by Anders Noren | Blogger Theme by NewBloggerThemes.com